الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، [لها] حكم برأسه- قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. قوله {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم، فادعُ الناس إليه. وقوله: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي: واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله، كما أمركم الله عز وجل. وقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يعني: المشركين فيما اختلقوه، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان. وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي: صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي: في الحكم كما أمرني الله. وقوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي: هو المعبود، لا إله غيره، فنحن نقر بذلك اختيارا، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا، فله يسجد من في العالمين طوعا وإختيارا. وقوله: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي: نحن برآء منكم، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]. وقوله: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قال مجاهد: أي لا خصومة. قال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف. وهذا مُتَّجَهٌ لأن هذه الآية مكية، وآية السيف بعد الهجرة. وقوله: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أي: يوم القيامة، كقوله: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26]. وقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب يوم الحساب.
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}. يقول تعالى- متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به- : {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي: يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: باطلة عند الله، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أي: منه، {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: يوم القيامة. قال ابن عباس، ومجاهد: جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله، ليصدوهم عن الهدى، وطمعوا أن تعود الجاهلية. وقال قتادة: هم اليهود والنصارى، قالوا لهم: ديننا خير من دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم، وأولى بالله منكم. وقد كذبوا في ذلك. ثم قال: {اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني: الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه {والميزان}، وهو: العدل والإنصاف، قاله مجاهد، وقتادة. وهذه كقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] وقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7- 9]. وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا. وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي: يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ:29]، وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا، وكفرا وعنادا، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي: خائفون وجلون من وقوعها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي: كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها. وقد رُوي من طرق تبلغ درجة التواتر، في الصحاح والحسان، والسنن والمسانيد، وفي بعض ألفاظه؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جَهْوَرِيّ، وهو في بعض أسفاره فناداه فقال: يا محمد. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته "هاؤم". فقال: متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك، إنها كائنة، فما أعددت لها؟" فقال: حُب الله ورسوله. فقال: "أنت مع من أحببت. فقوله في الحديث: "المرء مع من أحب"، هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها. وقوله: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ} أي: يحاجّون في وجودها ويدفعون وقوعها، {لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي: في جهل بين؛ لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27].
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم، لا ينسى أحدا منهم، سواء في رزقه البرّ والفاجر، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] ولها نظائر كثيرة. وقوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أي: يوسع على من يشاء، {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أي: لا يعجزه شيء. ثم قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} أي: عمل الآخرة {نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة همَّة البتة بالكلية، حَرَمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة. والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في "سبحان" وهي قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء:18- 21]. وقال الثوري، عن مُغيرة، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب [رضي الله عنه] قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب". وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة يَجُر قُصْبَه في النار" لأنه أول من سيب السوائب. وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حَمَل قريشا على عبادة الأصنام، لعنه الله وقبحه؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لعوجلوا بالعقوبة، لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: شديد موجع في جهنم وبئس المصير. ثم قال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أي: في عرصات القيامة، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة، هذا حالهم يوم معادهم، وهم في هذا الخوف والوجل، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فأين هذا من هذا: أين من هو في العَرَصَات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه، ممن هو في روضات الجنات، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قال: الحسن بن عرفة: حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طَيْبَة، قال: إن الشَّرْب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول: ما أمْطِرُكُم. قال: فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا. رواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، به. ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي: الفوز العظيم، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: هذا حاصل لهم كائن لا محالة، ببشارة الله لهم به. وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة. قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاوسا عن ابن عباس: أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد. فقال ابن عباس: عَجِلْتَ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. انفرد به البخاري. ورواه الإمام أحمد، عن يحيى القطان، عن شعبة به. وهكذا روى عامر الشعبي، والضحاك، وعلي بن أبي طلحة، والعَوْفي، ويوسف بن مِهْران وغير واحد، عن ابن عباس، مثله. وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا آدم بن أبي أياس، حدثنا شريك، عن خُصَيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تَوَدّوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم". وروى الإمام أحمد، عن حسن بن موسى: حدثنا قَزَعَة يعني ابن سُوَيد- وابن أبي حاتم- عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن قَزَعة بن سويد- عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا، إلا أن تُوَادوا الله، وأن تقربوا إليه بطاعته". وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري، مثله. وهذا كأنه تفسير بقول ثان، كأنه يقول: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. وقول ثالث: وهو ما حكاه البخاري وغيره، رواية عن سعيد بن جبير، ما معناه أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي: تحسنوا إليهم وتبروهم. وقال السدي، عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرني الفتنة. فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن، ولم أقرأ آل حم. قال: ما قرأت: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ قال: وإنكم أنتم هم؟ قال: نعم. وقال: أبو إسحاق السَّبِيعيّ: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال: قربى النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما ابن جرير. ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلام، حدثني يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا، وكأنهم فخروا فقال ابن عباس- أو: العباس، شك عبد السلام- : لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال: "يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟" قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "أفلا تجيبوني؟" قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: "ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذبوك فصدقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك"؟ قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. قال: فنزلت: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن علي بن الحسين، عن عبد المؤمن بن علي، عن عبد السلام، عن يزيد بن أبي زياد- وهو ضعيف- بإسناده مثله، أو قريبا منه. وفي الصحيحين- في قسم غنائم حنين- قريب من هذا السياق، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية. وذكْرُ نزولها في المدينة فيه نظر؛ لأن السورة مكية، وليس يظهر بين هذه الآية الكريمة وبين السياق مناسبة، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا رجل سماه، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: "فاطمة وولدها، عليهم السلام". وهذا إسناد ضعيف، فيه مبهم لا يعرف، عن شيخ شيعي مُتَخَرّق ، وهو حسين الأشقر، ولا يقبل خبره في هذا المحل. وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد؛ فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حَبرُ الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس، كما رواه عنه البخاري [رحمه الله] ولا تنكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته، رضي الله عنهم أجمعين. و[قد ثبت] في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض". وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث ، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها؟ قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال: "والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله". ثم قال أحمد حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تُحدث، فإذا رأوناسكتوا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَرّ عِرْقُ بين عينه ، ثم قال: "والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي". وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد، حدثنا شعبة، عن واقد قال: سمعتُ أبي يحدّث عن ابن عمر، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وفي الصحيح: أن الصديق قال لعلي، رضي الله عنهما: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي . وقال عمر بن الخطاب للعباس، رضي الله عنهما: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب. فحال الشيخين، رضي الله عنهما، هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك؛ ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين، رضي الله عنهما، وعن سائر الصحابة أجمعين. وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي حَيّان التيمي، حدثني يزيد ابن حيان قال: انطلقت أنا وحُسَيْن بن مَيْسَرة، وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيتَ يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت معه. لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا ابن أخي، والله كَبُرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تُكَلّفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا فينا، بماء يدعى خُمّا- بين مكة والمدينة- فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: "أما بعد، ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، قال: أكل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. وهكذا رواه مسلم [في فضائل] والنسائي من طرق عن يزيد بن حَيّان به. وقال أبو عيسى الترمذي حدثنا علي بن المنذر الكوفي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد- والأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترتي: أهل بيتي، ولن يَتَفَرَّقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما" تفرد بروايته الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وقال الترمذي أيضا حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحسن، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: "يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي: أهل بيتي" تفرد به الترمذي أيضا، وقال: حسن غريب. وفي الباب عن أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد. ثم قال الترمذي: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا يحيى بن مَعِين، حدثنا هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي" ثم قال حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. وقد أوردنا أحاديث أُخَر عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، بما أغنى عن إعادتها هاهنا، ولله الحمد والمنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سويد بن سَعِيد، حدثنا مفضل بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن حَنَش قال: سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول: يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثل أهل بيتي فيكم مَثَل سفينة نوح، من دخلها نجا، ومن تخلف عنها هلك". هذا بهذا الإسناد ضعيف. وقوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي: ومن يعمل حسنة {نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي: أجرا وثوابا، كقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]. وقال بعض السلف: [إن] من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة(السيئة)} بعدها. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي: يغفر الكثير من السيئات، ويكثر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر، ويضاعف فيشكر. وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي: لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي: لَطَبَعَ على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44- 47] أي: لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} ليس معطوفا على قوله: {يختم} فيكون مجزوما، بل هو مرفوع على الابتداء، قاله ابن جرير، قال: وحذفت من كتابته "الواو" في رسم المصحف الإمام، كما حذفت في قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18] وقوله: {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء:11]. وقوله: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} معطوف على {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} أي: يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته، أي: بحججه وبراهينه، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}. يقول تعالى ممتنا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه: أنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح ويستر ويغفر، كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] وقد ثبت في صحيح مسلم، رحمه الله، حيث قال: حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قال حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك- وهو عمه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك- أخطأ من شدة الفرح". وقد ثبت أيضا في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود نحوه . وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}: إن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان الذي يخاف أن يقتله العطش فيه". وقال همام بن الحارث: سئل ابن مسعود عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها؟ قال: لا بأس به، وقرأ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي، عن همام فذكره. وقوله: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أي: يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي، {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي: هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم، ومع هذا يتوب على من تاب إليه. وقوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال السدي: يعني يستجيب لهم. وكذا قال ابن جرير: معناه يستجيب الدعاء لهم [لأنفسهم] ولأصحابهم وإخوانهم. وحكاه عن بعض النحاة، وأنه جعلها كقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195]. ثم روى هو وابن أبي حاتم، من حديث الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن سلمة بن سبرة قال: خطبنا معاذ بالشام فقال: أنتم المؤمنون، وأنتم أهل الجنة. والله إني أرجو أن يدخل الله من تسبون من فارس والروم الجنة، وذلك بأن أحدكم إذا عمل له- يعني أحدُهم عملا- قال: أحسنت رحمك الله، أحسنت بارك الله فيك، ثم قرأ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل [مثل] قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} كقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر:18] أي: هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه، كقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:36] والمعنى الأول أظهر؛ لقوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي: يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية، حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي، حدثنا الأعمش، عن شقيق عن عبد الله قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال: "الشفاعة لمن وجبت له النار، ممن صنع إليهم معروفا في الدنيا". وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: يشفعون في إخوانهم، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال: يشفعون في إخوان إخوانهم. وقوله: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل، ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم. وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ} أي: لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض، أشرا وبطرا. وقال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك. وذكر قتادة حديث: "إنما أخاف عليكم ما يخرج الله من زهرة الحياة الدنيا" وسؤال السائل: أيأتي الخير بالشر؟ الحديث. وقوله: {وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي: ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر. كما جاء في الحديث المروي: "إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه" وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} أي: من بعد إياس الناس من نزول المطر، ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49]. وقوله: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي: يعم بها الوجود على أهل ذلك القُطْر وتلك الناحية. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، قُحط المطر وقنط الناس؟ فقال عمر، رضي الله عنه: مطرتم، ثم قرأ: {وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ}. {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي: هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ:} الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر {خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} أي: ذرأ فيهما، أي: في السموات والأرض، {مِنْ دَابَّةٍ} وهذا يشمل الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم، وطباعهم وأجناسهم، وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار الأرض والسموات، {وهو} مع هذا كله {عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} أي: يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق. وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وفي الحديث الصحيح: "والذي نفسي بيده، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وَصَب ولا هم ولا حُزَن، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها". وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُليَّة، حدثنا أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قِلابَةَ قال: نزلت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7، 8] وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، إني لراء ما عملت من خير وشر؟ فقال: "أرأيت ما رأيت مما تكره، فهو من مثاقيل ذَرّ الشر، وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة" قال: قال أبو إدريس: فإني أرى مصداقها في كتاب الله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. ثم رواه من وجه آخر، عن أبي قِلابَةَ، عن أنس، قال: والأول أصح.وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري، حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي، عن الخَضْر بن القَوَّاس البجلي، عن أبي سخيلة عن علي، رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل، وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. وسأفسرها لك يا علي: "ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم والله تعالى أحلم من أن يُثَنِّى عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه" وكذا رواه الإمام أحمد، عن مروان بن معاوية وعَبْدة، عن أبي سُخَيلة قال: قال علي... فذكر نحوه مرفوعا. ثم روى ابن أبي حاتم [نحوه] من وجه آخر موقوفا فقال: حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح، عن أبي الحسن، عن أبي جُحَيفَة قال: دخلت على علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يَعيَه ؟ قال: فسألناه فتلا هذه الآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قال: ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يُثَنِّي عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا طلحة- يعني ابن يحيى- عن أبي بُرْدَةَ، عن معاوية- هو ابن أبي سفيان، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كَفَّرَ الله عنه به من سيئاته". وقال أحمد أيضا: حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد ، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحَزَنِ ليكفرها". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن- هو البصري- قال في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قال: لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، ما من خَدْش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عَثْرة قدم، إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر". وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عمر بن علي، حدثنا هُشَيمْ، عن منصور، عن الحسن، عنعمران بن حصين، رضي الله عنه، قال: دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده، فقال له بعضهم إنا لَنَبْتَئِسُ لك لما نرى فيك. قال: فلا تبتئس بما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. [قال:] وحدثنا أبي: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني، حدثنا جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وقد ذهب بصري وأنا غلام؟ قال: فبذنوب والديك. وحدثنا أبي: حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي، حدثنا وكيع، عن عبد العزيز بن أبي راود، عن الضحاك قال: ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ الضحاك: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}. يقول تعالى: ومن آياته الدالة على قدرته وسلطانه، تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره، وهي الجواري في البحر كالأعلام، أي: كالجبال، قاله مجاهد، والحسن، والسدي، والضحاك، أي: هي في البحر كالجبال في البر،. {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} أي: التي تسير بالسفن ، لو شاء لسكنها حتى لا تتحرك السفن، بل تظل راكدة لا تجيء ولا تذهب، بل واقفة على ظهره، أي: على وجه الماء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} أي: في الشدائد {شكور} أي: إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم، لدلالات على نعمه تعالى على خلقه {لِكُلِّ صَبَّارٍ} أي: في الشدائد، {شكور} في الرخاء. وقوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي: ولو شاء لأهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون عليها {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي: من ذنوبهم. ولو أخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر. وقال بعض علماء التفسير: معنى قوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي: لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية، فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال، آبقة لا تسير على طريق، ولا إلى جهة مقصد. وهذا القول هو يتضمن هلاكها، وهو مناسب للأول ، وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت، أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت. ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة، كما يرسل المطر بقدر الكفاية، ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان، أو قليلا لما أنبت الزرع والثمار، حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها؛ لأنهم لا يحتاجون إلى مطر، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم، وأسقط جدرانهم. وقوله: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}. يقول تعالى محقرا بشأن الحياة الدنيا وزينتها، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني، بقوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به، فإنما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: وثواب الله خير من الدنيا، وهو باق سرمدي، فلا تقدموا الفاني على الباقي؛ ولهذا قال: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات. ثم قال: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في "سورة الأعراف" {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: سجيتهم [وخلقهم وطبعهم] تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله وفي حديث آخر: "كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له؟ تربت جبينه". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن زائدة، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا. وقوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي: اتبعوا رسله وأطاعوا أمره، واجتنبوا زجره، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} وهي أعظم العبادات لله عز وجل، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي: لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] ولهذا كان عليه [الصلاة] السلام، يشاورهم في الحروب ونحوها، ليطيب بذلك قلوبهم. وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] الوفاة حين طعن، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر، وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم أجمعين، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم، رضي الله عنهم، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وذلك بالإحسان إلى خلق الله، الأقرب إليهم منهم فالأقرب. وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا وعفوا، كما قال يوسف، عليه السلام، لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] [يوسف:92]، مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه، وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه عن غَوْرَث بن الحارث، الذي أراد الفتك به [عليه السلام] حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ، عليه السلام، وهو في يده صَلْتا، فانتهره فوضعه من يده، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف من يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل، وعفا عنه. وكذلك عفا عن لبيد بن الأعصم ، الذي سحره، عليه السلام، ومع هذا لم يعرض له، ولا عاتبه، مع قدرته عليه. وكذلك عفوه، عليه السلام، عن المرأة اليهودية- وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة- التي سمت الذراع يوم خيبر، فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت فقال: "ما حملك على ذلك" قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك، فأطلقها، عليه الصلاة والسلام، ولكن لما مات منه بشر بن البراء قتلها به، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا، والحمد لله.
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] وكقوله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:129] فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، كقوله [تعالى] {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45]؛ ولهذا قال هاهنا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي: لا يضيع ذلك عند الله كما صح في الحديث: "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا" وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي: المعتدين، وهو المبتدئ بالسيئة. [وقال بعضهم: لما كانت الأقسام ثلاثة: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فذكر المقتصد وهو الذي يفيض بقدر حقه لقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، ثم ذكر السابق بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ثم ذكر الظالم بقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فأمر بالعدل،وندب إلى الفضل، ونهى من الظلم]. ثم قال: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم. قال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزيع حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عَوْن قال: كنت أسأل عن الانتصار: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد- امرأة أبيه- قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة - قالت: قالت أم المؤمنين: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندنا زينب بنت جحش، فجعل يصنع بيده شيئا فلم يَفْطِن لها، فقلت بيده حتى فَطَّنته لها، فأمسك. وأقبلت زينب تقحم لعائشة، فنهاها، فأبت أن تنتهي. فقال لعائشة: "سُبّيها" فسبتها فغلبتها، وانطلقت زينب فأتت عليا فقالت: إن عائشة تقع بكم، وتفعل بكم. فجاءت فاطمة فقال لها "إنها حبة أبيك ورب الكعبة" فانصرفت، وقالت لعلي: إني قلت له كذا وكذا، فقال لي كذا وكذا. قال: وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك. هكذا ورد هذا السياق، وعلي بن زيد بن جدعان يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا، وهذا فيه نكارة، والحديث الصحيح خلاف هذا السياق، كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء، عن عبد الله البَهِيّ، عن عروة قال: قالت عائشة، رضي الله عنها: ما علمتُ حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر ذُرَيّعَتَيهَا ثم أقبلت علي فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دونك فانتصري" فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فمها، ما ترد علي شيئا. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه. وهذا لفظالنسائي. وقال البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو غسان، حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا على من ظلمه فقد انتصر". ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص، عن أبي حمزة- واسمه ميمون- ثم قال: "لا نعرفه إلا من حديثه، وقد تكلم فيه من قبل حفظه". وقوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي: إنما الحرج والعنت {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: يبدؤون الناس بالظلم. كما جاء في الحديث الصحيح: "المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَد المظلوم". {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: شديد موجع. قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا سعيد بن زيد- أخو حماد بن زيد- حدثنا عثمان الشحام، حدثنا محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق مَنْظَرَة، فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب، وهو أمير على البصرة، فقال: حاجتك يا أبا عبد الله. قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي. قال: ومن أخو بني عدي؟ قال: العلاء بن زياد، استعمل صديقا له مرة على عمل، فكتب إليه: أما بعد فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فقال صدق والله ونصح ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله؟ قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي. قال: نعم رواه ابن أبي حاتم. ثم إنه تعالى لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص، قال نادبا إلى العفو والصفح: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} أي: صبر على الأذى وستر السيئة، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ}. قال سعيد بن جبير: [يعني] لمن حق الأمور التي أمر الله بها، أي: لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي، حدثنا عبد الصمد بن يزيد- خادم الفضيل بن عياض- قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا فقل: "يا أخي، اعف عنه". فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل. فقل له إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى- يعني ابن سعيد القطان- عن ابن عَجْلان، حدثنا سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال: "إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان". ثم قال: "يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق، ما من عبد ظُلم بمظلمة فيغضي عنها لله، إلا أعز الله بها نَصْرَه، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، إلا زاده الله بها قلة" وكذا رواه أبو داود، عن عبد الأعلى بن حماد، عن سفيان بن عيينة- قال: ورواه صفوان بن عيسى، كلاهما عن محمد بن عَجْلان ورواه من طريق الليث، عن سعيد المَقْبُرِي، عن بشير بن المحرر، عن سعيد بن المسيب مرسلا. وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى، وهو سببُ سبه للصديق.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ}. يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة: إنه ما شاء كان ولا راد له، وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له وأنه من هداه فلا مُضِل له، ومن يضلل فلا هادي له، كما قال: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] ثم قال مخبرا عن الظالمين، وهم المشركون بالله {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي: يوم القيامة يتمنون الرجعة إلى الدنيا، {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}، كما قال [تعالى] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27، 28]. وقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي: على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أي: الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله، {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال مجاهد: يعني ذليل، أي ينظرون إليها مُسَارقَة خوفا منها، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، وما هو أعظم مما في نفوسهم، أجارنا الله من ذلك. {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يقولون يوم القيامة: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} أي: الخسار الأكبر {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم، فخسروهم، {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها. وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أي: ليس له خلاص.
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}. لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حَذَّر منه وأمر بالاستعداد له، فقال: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أي: إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون، وليس له دافع ولا مانع. وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي: ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه، فتغيبون عن بصره، تبارك وتعالى، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته، فلا ملجأ منه إلا إليه، {يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:10- 12]. وقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} يعني: المشركين {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي: لست عليهم بمصيطر. وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40] وقال هاهنا: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} أي: إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم. ثم قال تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} أي: إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} يعني الناس {سيئة} أي: جدب ونقمة وبلاء وشدة، {فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} أي: يجحد ما تقدم من النعمة ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [للنساء] يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تُكثرن الشكاية، وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت: ما رأيت منك خيرا قط" وهذا حال أكثر الناس إلا من هداه الله وألهمه رشده، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}. يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، و{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} أي: يرزقه البنات فقط- قال البغوي: ومنهم لوط، عليه السلام {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} أي: يرزقه البنين فقط. قال البغوي: كإبراهيم الخليل، عليه السلام- لم يولد له أنثى،. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} أي: ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى، أي: من هذا وهذا. قال البغوي: كمحمد، عليه الصلاة والسلام {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} أي: لا يولد له. قال البغوي: كيحيى وعيسى، عليهما السلام، فجعل الناس أربعة أقسام، منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيما لا نسل له ولا يولد له، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أي: بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، {قَدِيرٌ} أي: على من يشاء، من تفاوت الناس في ذلك. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى عن عيسى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21] أي: دلالة لهم على قدرته، تعالى وتقدس، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام، فآدم، عليه السلام، مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى، وحواء عليها السلام، [مخلوقة] من ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى [عليه السلام] من ذكر وأنثى، وعيسى، عليه السلام، من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم، عليهما السلام؛ ولهذا قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}، فهذا المقام في الآباء، والمقام الأول في الأبناء، وكل منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ}. هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله، عز وجل، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، كما جاء في صحيح ابن حبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وقوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} كما كلم موسى، عليه السلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: "ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا" الحديث ، وكان [أبوه] قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} كما ينزل جبريل [عليه السلام] وغيره من الملائكة على الأنبياء، عليهم السلام، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}، فهو علي عليم خبير حكيم. وقوله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} يعني: القرآن، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ} أي: على التفصيل الذي شرع لك في القرآن، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أي: القرآن {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}، كقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]. وقوله: {وَإِنَّكَ} [أي] يا محمد {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وهو الخلق القويم. ثم فسره بقوله: {صِرَاطِ اللَّهِ [الَّذِي]} أي: شرعه الذي أمر به الله، {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي: ربهما ومالكهما، والمتصرف فيهما، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ}، أي: ترجع الأمور، فيفصلها ويحكم فيها. آخر تفسير سورة "[حم] الشورى" والحمد لله رب العالمين.
وهي مكية. بسم الله الرحمن الرحيم
{حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}. يقول تعالى: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي: البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس؛ ولهذا قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} أي:أنزلناه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي: بلغة العرب فصيحا واضحا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمونه وتتدبرونه، كما قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} بين شرفه في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: {وإنه} أي: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس، ومجاهد، {لدينا} أي: عندنا، قاله قتادة وغيره، {لعلي} أي: ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل، قاله قتادة {حكيم} أي: محكم بريء من اللبس والزيغ. وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله، كما قال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77- 80] وقال: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11- 16]؛ ولهذا استنبط العلماء، رحمهم الله، من هاتين الآيتين: أن المُحدِثَ لا يمس المصحف، كما ورد به الحديث إن صح؛ لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى، لأنه نزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم، لقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. وقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} اختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناها: أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس، ومجاهد وأبو صالح، والسدي، واختاره ابن جرير. وقال قتادة في قوله:: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}: والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته، وكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك. وقول قتادة لطيف المعنى جدا، وحاصله أنه يقول في معناه: أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذكر الحكيم- وهو القرآن- وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي من قَدّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته. ثم قال تعالى- مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه، وآمرا له بالصبر عليهم- : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ} أي: في شيع الأولين، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: يكذبونه ويسخرون به. وقوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أي: فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد. كقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غافر: 82] والآيات في ذلك كثيرة. وقوله: {وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ} قال مجاهد: سنتهم. وقال قتادة: عقوبتهم. وقال غيرهما: عبرتهم، أي: جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله في آخر هذه السورة: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} [الزخرف: 56]. وكقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] وقال: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. يقول تعالى: ولئن سألت- يا محمد- هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي: ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله [تعالى] وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد. ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا} أي: فراشًا قرارًا ثابتة، يسيرون عليها ويقومون وينامون وينصرفون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أي: طرقا بين الجبال والأودية {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم. {وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم، لأنفسكم ولأنعامكم. وقوله: {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي: أرضا ميتة، فلما جاءها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج. ثم نبه بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها، فقال: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. ثم قال: {وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أي: مما تنبت الأرض من سائر الأصناف، من نبات وزروع وثمار وأزاهير، وغير ذلك [أي] من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} أي: السفن {وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أي: ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها؛ ولهذا قال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} أي: لتستووا متمكنين مرتفقين {عَلَى ظُهُورِهِ} أي: على ظهور هذا الجنس، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} أي: فيما سخر لكم {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي: مقاومين. ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه. قال ابن عباس ، وقتادة، والسدي وابن زيد: {مقرنين} أي: مطيقين. {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر. وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على [الزاد] الأخروي في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ]} [الأعراف: 26]. ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة: حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليا، رضي الله عنه، أتى بدابة، فلما وضع رجله في الرِّكاب قال: باسم الله. فلما استوى عليها قال: الحمد لله، {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ثم حمد الله ثلاثا، وكبر ثلاثا، ثم قال: سبحانك، لا إله إلا أنت، قد ظلمت نفسي فاغفر لي. ثم ضحك فقلت له: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ، ثم ضحك. فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال: "يعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي. ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري". وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث أبي الأحوص- زاد النسائي: ومنصور- عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي، به . وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد قال عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن شعبة: قلت لأبي إسحاق السَّبِيعي: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال: من يونس بن خباب. فلقيت يونس بن خباب فقلت: ممن سمعته؟ فقال: من رجل سمعه من علي بن ربيعة. ورواه بعضهم عن يونس بن خباب، عن شقيق بن عقبة الأسدي، عن علي بن ربيعة الوالبي، به. حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا أبو بكر بن عبد الله، عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته، فلما استوى عليها كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، وحمد ثلاثا، وهلل الله واحدة. ثم استلقى عليه فضحك، ثم أقبل عليه فقال: "ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت، إلا أقبل الله، عز وجل، عليه، فضحك إليه كما ضحكت إليك". تفرد به أحمد. حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن علي بن عبد الله البارقي، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. ثم يقول: "اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهم، هون علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم، اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا". وكان إذا رجع إلى أهله قال: "آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون". وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث ابن جريج، والترمذي من حديث حماد بن سلمة، كلاهما عن أبي الزبير، به. حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان ، عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج. فقلنا: يا رسول الله، ما نرى أن تحملنا هذه! فقال: "ما من بعير إلا في ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم ، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله عز وجل". أبو لاس اسمه: محمد بن الأسود بن خَلَف. حديث آخر في معناه: ح- قال أحمد: حدثنا عَتَّاب، أخبرنا عبد الله(ح) وعلي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله- يعني ابن المبارك- أخبرنا أسامة بن زيد، أخبرني محمد بن حمزة؛ أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "على ظهر كل بعير شيطان، فإن ركبتموها فسموا الله، عز وجل، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم".
|